نسبها
هي صفيَّة بنت حُيَيِّ بن أخطب بن شعبة بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن تحوم من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران (9 ق.هـ- 50هـ/ 613- 670م). وأُمُّها بَرَّة بنت سموءل، كانت صفيَّة بنت حيي عند سلاَّم بن مشكم، وكان شاعرًا، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحُقَيْق وهو شاعر قُتل يوم خيبر[1].
كراهية قومها للرسالة الربانية
كانت السيدة صفيَّة -رضي الله عنها- سيدة بني قريظة والنضير، أبوها حيي بن أخطب زعيم اليهود، وعالم من علمائهم، كان على عِلْمٍ بأن محمدًا r نبيٌّ مرسل من قِبَلِ الله منذ قدومه إلى المدينة، لكنه استكبر؛ لأن النبي من العرب، ولم يكن من اليهود، وهذه القصَّة تحكيها لنا السيدة صفيَّة بنت حيي -رضي الله عنها- قائلة: لم يكن أحد من ولد أبي وعمِّي أحبَّ إليهما منِّي، لم ألقهما في ولد لهما قطُّ أهشّ إليهما إلاَّ أخذاني دونه، فلمَّا قدم رسول الله r قُباء -قرية بني عمرو بن عوف- غدا إليه أبي وعمِّي أبو ياسر بن أخطب مغلِّسين[2]، فوالله ما جاءانا إلاَّ مع مغيب الشمس، فجاءانا فاترين، كسلانين، ساقطين، يمشيان الهوينى، فهششتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما نظر إليَّ واحدٌ منهما، فسمعت عمِّي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم، والله! قال: تعرفه بنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ؟ قال: نعم والله. قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بَقِيتُ.
وذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله r المدينة ذهب إليه وسمع منه وحادَثه، ثم رجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أطيعوني؛ فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه.
فانطلق أخوه حيي بن أخطب -وهو يومئذٍ سيِّد اليهود، وهما من بني النضير- فجلس إلى رسول الله وسمع منه، ثم رجع إلى قومه، وكان فيهم مطاعًا، فقال: أتيتُ من عند رجلٍ والله لا أزال له عدوًّا أبدًا.
فقال له أخوه أبو ياسر: يابن أمِّ، أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئتَ بعده، لا تهلك.
قال: لا والله لا أطيعك أبدًا. واستحوذ عليه الشيطان، واتبعه قومه على رأيه[3].
زواجها من رسول الله
إن يهود خيبر رفضوا دعوة السلام والتعايش التي وثَّقها النبي r منذ قدومه المدينة مع يهودها، فقامت الحرب بين الطرفين، وانتصر المسلمون على يهود خيبر، وأُسِرَت السيدة صفية بنت حُيي، ولما جُمِعَ السبي جاء دِحْيَةُ بن خليفة الكلبي، فقال: يا نبي الله، أعطني جارية من السبي. فقال: "اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً". فأخذ صفيَّة بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي r فقال: يا نبي الله، أعطيتَ دِحْيَةَ صفية بنت حيي سيِّدَةَ قريظة وبني النضير، لا تصلح إلاَّ لك. قال: "ادْعُوهُ بِهَا". فجاء بها، فلمَّا نظر إليها النبي r قال: "خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيْرَهَا". وكانت -رضي الله عنها- عروسًا حديثة عهد بالدخول، فأمر النبي r بلالاً أن يذهب بها إلى رحلة، فمرَّ بها بلال وسط القتلى، فكره ذلك رسول الله r، وقال: "أَذَهَبَتِ الرَّحْمَةُ مِنْكَ يَا بِلالُ؟". وعرض عليها رسول الله r الإسلام فأسلمتْ، فاصطفاها لنفسه، وأعتقها وجعل عتقها صداقها، وبنى بها في الطريق، وأولم عليها، ورأى بوجهها خضرة، فقال: "مَا هَذَا؟" قالت: يا رسول الله، أُرِيتُ قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه فسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئًا، فقصصتها على زوجي، فلطم وجهي، وقال: تمنِّين هذا الملك الذي بالمدينة[4].
الحكمة من زواج النبي منها
الإسلام يحفظ للإنسان مكانته، ولا ينقص منها بل يَزِيدها، ومَنْ كان شريفًا قبل إسلامه يزداد شرفًا بالإسلام، ومَنْ كان عزيزًا ازداد عزَّة في الإسلام، وإذا نظرنا إلى حياة السيدة صفيَّة -رضي الله عنها- قبل الإسلام وجدناها سيِّدةً في قومها، فهي ابنة أحد الزعماء المشهورين حيي بن أخطب، زعيم بني النضير، كما أنها زوجة أحد الزعماء المشهورين أيضًا وهو كنانة بن أبي الحُقَيْق.
ولمَّا جُمِعَ السبي بعد فتح خيبر جاء دِحية الكلبي إلى رسول الله r، فقال: يا نبي الله، أعطني جارية من السبي. قال: "اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً". فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي r فقال: يا نبي الله، أعطيتَ دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك. قال: "ادْعُوهُ بِهَا". فجاء بها، فلما نظر إليها النبي r قال: "خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيْرَهَا". قال: فأعتقها النبي r وتزوَّجها[5].
وفي زواج السيدة صفيَّة -رضي الله عنها- من زعيم المسلمين الأوَّل رسول الله r أكبر تشريف لها وأعظمه.
وكانت صفية -رضي الله عنها- قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرًا وقع حجرها. فعرضتْ رؤياها على زوجها، فقال: ما هذا إلاَّ أنك تمنِّين ملك الحجاز محمدًا، فلطم وجهها لطمةً خَضِر عينها منها. فأُتِي بها رسول الله r وبها أثر منه، فسألها ما هو؟ فأخبرته هذا الخبر[6]. وتزوَّجها النبي r ولم تبلغ سبع عشرة سنة[7].
تكريم النبي لها
كان رسول الله r حليمًا بالسيدة صفيَّة -رضي الله عنها- محبًّا ومُكرمًا لها؛ فقد بلغ صفيَّةُ أن حفصة -رضي الله عنها- قالت: بنتُ يهوديٍّ. فبكتْ، فدخل عليها رسول الله r وهي تبكي، فقال: "مَا يُبْكِيَكِ؟" قالت: قالت لي حفصة بنت عمر إني ابنة يهودي. فقال النبي r: "إِنَّكِ لابْنَةُ نَبِيٍّ، وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ، وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ، فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ". ثم قال: "اتَّقِي اللهَ يَا حَفْصَةُ"[8].
وحجَّ النبي r بنسائه، حتى إذا كان ببعض الطريق نزل رجلٌ فَسَاقَ بهنَّ -يعني النساء- فقال رسول الله r: "كَذَلِكَ سَوْقُكَ بِالْقَوَارِيرِ". يعني بالنساء، فبينما هم يسيرون بَرَكَ بصفيَّة جملها، وكانت من أحسنهنَّ ظهرًا، فبكتْ، فجاء رسول الله r حين أُخْبِرَ بذلك، فجعل يمسح دموعها، وجعلتْ تزداد بكاء وهو ينهاها، فلمَّا أكثرتْ زجرها وانتهرها، وأمر الناس فنزلوا، ولم يكن يريد أن ينزل، قالت: فنزلوا، وكان يومي، فلمَّا نزلوا ضُرِبَ خباءُ النبي r، ودخل فيه، فلم أدرِ علامَ أُهْجَمُ مِنْ رسول الله r، وخشيت أن يكون في نفسه شيء، فانطلقتُ إلى عائشة، فقلت لها: تعلمين أني لم أكن أبيع يومي من رسول الله r بشيء أبدًا، وإني قد وهبتُ يومي لك على أن تُرِضي رسول الله r عني. قالت: نعم. قالت: فأخذتْ عائشة خمارًا لها قد ثَرَدَتْه[9] بزعفران، ورشَّته بالماء لتُزْكي ريحه، ثم لبستْ ثيابها، ثم انطلقتْ إلى رسول الله r فرفعت طرف الخباء، فقال لها: "مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ هَذَا لَيْسَ يَوْمَكِ؟" قالت: ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء. فقال[10] مع أهله.
فلمَّا كان عند الرواح، قال لزينب بنت جحش: "أَفْقِرِي[11] لأُخْتِكِ صَفِيَّةَ جَمَلاً". وكانت من أكثرهن ظهرًا، فقالت: أنا أُفْقِر يهوديَّتك. فغضب رسول الله r حين سمع ذلك منها، فهجرها، فلم يُكلِّمْها حتى قدم مكة وأيام مِنى من سفره حتى رجع إلى المدينة والمحرَّم وصفر، فلم يأتها ولم يقسم لها، فأَيِسَتْ منه، فلمَّا كان شهر ربيع الأول دخل عليها رسول الله r فرأت ظلَّه، فقالت: إن هذا الظلَّ ظلُّ رجل، وما يدخل علَيَّ النبي r، فَمَنْ هذا؟ فدخل عليها رسول الله r فلمَّا رأته قالت: رسول الله، ما أدري ما أصنع حين دخلتَ علَيَّ. وكانت لها جارية تخبِّئها من رسول الله r، فقالت: فلانة لكَ[12].
وممَّا يُذكر عن اهتمام النبي r بالسيدة صفيَّة -رضي الله عنها- وإكرامه لها، أنها -رضي الله عنها- جاءت إلى رسول الله r تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الأواخر من شهر رمضان، فتحدَّثت عنده ساعة من العشاء، ثم قامت تنقلب، فقام معها رسول الله r يَقْلِبُها[13]، حتى إذا بلغتْ باب المسجد -الذي كان عند مسكن أمِّ سلمة زوج النبي r- مرَّ بها رجلان من الأنصار، فسلَّما على رسول الله r ثم نفذا، فقال لهما رسول الله r: "عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ". قالا: سبحان الله، يا رسول الله! وكَبُر عليهما ذلك، فقال رسول الله r: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا"[14].
ملامح شخصيتها وفضائلها
كانت السيِّدة صفيَّة -رضي الله عنها- إحدى العاقلات في زمانها، ويظهر صفاء عقلها وقوَّة فطنتها في تَذَكُّرِها لمَا كان من أحداث قبل إسلامها، استلهمتْ من هذه الأحداث صِدْق النبي r، ومهَّد ذلك لإسلامها.
الرسول يُقسِم على صِدْقها قبيل رحيله
عن زيد بن أسلم: أن نبي الله في وجعه الذي تُوُفي فيه، قالت صفية بنت حيي: والله يا نبي الله لوددت أن الذي بكَ بي. فغمزها أزواجه; فَأبْصَرَهُنَّ. فقال: "مَضْمَضْنَ". قُلْنَ: من أي شيء؟ قال: "مِنْ تَغَامُزِكُنَّ بِهَا، وَاللهِ إِنَّهَا لَصَادِقَةٌ"[15].
حياتها وزهدها بعد رسول الله
بعد وفاة النبي r ظلَّت السيدة صفيَّة -رضي الله عنها- متعهِّدة له ولسُنَّته، وقد كانت -رضي الله عنها- حليمة عاقلة فاضلة؛ حيث رُوِيَ أن جاريةً لها أتت عمر بن الخطاب t فقالت: إن صفيَّة تحبُّ السبت وتَصِلُ اليهود. فبعث إليها عمر فسألها فقالت: "أمَّا السبت فإنِّي لم أحبّه منذ أبدلني الله به يوم الجمعة، وأمَّا اليهود فإن لي فيهم رحمًا وأنا أَصِلُها". ثم قالت للجارية: "ما حملك على ما صنعتِ؟" قالت: الشيطانُ. قالت: "اذهبي فأنت حُرَّة"[16].
لقد عاشت -رضي الله عنها- بعد رحيل المصطفى r على منهاجه وسُنَّته، وظلَّت متمسِّكة بهديه r حتى لَقِيَتْ ربَّها، وقد كان لها أروع المواقف في وقوفها مع ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان t في وجه الفتنة الهوجاء التي لقيها المسلمون في تلك الآونة؛ فعن كنانة قال: كنتُ أقود بصفية لترُدَّ عن عثمان، فلقيها الأشتر[17] فضرب وجه بغلتها حتى مالت، فقالت: "ردُّوني لا يفضحني هذا". ثم وضعتْ خشبًا من منزلها ومنزل عثمان تنقل عليه الماء والطعام[18].
ما أروعه من موقف لأُمِّنَا صفيَّة رضي الله عنها! عبَّرَتْ به عن عدم رضاها لما حدث مع عثمان t، فقد حاصروا بيته ومنعوا عنه الماء والطعام، فرأتْ -رضي الله عنها- أن تقف معه في محنته، وتكون عونًا له في شدَّته، وهي -رضي الله عنها- لم تألُ جهدًا في الولاء لعثمان t، الذي اختاره الناس أميرًا للمؤمنين، وموقفها هذا يُشير إلى صدق إسلامها ورغبتها في رَأْب الصدع الذي حدث بين المسلمين، وكراهتها لشقِّ عصا الطاعة على أمير المؤمنين عثمان t[19].
مروياتها ووفاتها
روت عن النبي r، وروى عنها ابن أخيها، ومولياها: كنانة، ويزيد بن معتب. وعلِيّ بن الحسين بن علِيٍّ، ومسلم بن صفوان، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث. وتُوُفِّيَتْ -رضي الله عنها- سنة (50 هـ/ 670م) في زمن معاوية t، ودُفِنَتْ بالبقيع[20