من معاني قبضه : أنه جل وعلا يقبض الأرض بيده كما قال تعالى : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزمر:67] ، وعن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك ) . وفي لفظ للبخاري : ( أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه فيقول أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم ) [5]
" والله عز وجل يقبض القلوب بإعراضها ويبسطها للإيمان بإقبالها فيقلب للعبد نوازع الخير في قلبه ، قرينه من الملائكة يهتف له بأمر ربه ، حتى يصبح قلبه على أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، وهذا هو البسط الحقيقي والتوفيق الإلهي في بلوغ العبد درجة الإيمان ، فيجد المبسوط نورا يضيء له الجنان وسائر الجوارح والأركان ،ويَقبِضُ الأَرْواحَ عند المَمات بأمره وقدرته وقبضه تعالى وإمساكه وصف حقيقي لا نعلم كيفيته ، نؤمن به على ظاهره وحقيقته ، لا نمثل ولا نكيف ، ولا نعطل ولا نحرف ، وعلى هذا اعتقاد السلف في جميع الصفات والأفعال ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وقد تواتر في السنة مجيء اليد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمفهوم من هذا الكلام أن لله تعالى يدين مختصتان به ذاتيتان له كما يليق بجلاله ، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس ، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوى السموات بيده اليمنى وأن يداه مبسوطتان ) [6]" [7].أن يوقن العبد الذي حرم شيئا من الدنيا,ولم يقدر له مع السعي في تحصيله :
أن اختيار الله له خير من اختياره لنفسه فكم عطاء كان سببا للشقاء , فلعل الله حرمه لتصفو نفسه لمولاه وتقر عينه بربه كما كان نبيه عليه الصلاة والسلام الذي جعلت قرة عينه في صلاته فلا يجد العبد لذة في سوى مرضاة الله ولا تجد نفسه سعادة ولا نعيم ولا سرور إلا بالقيام بعبوديته سبحانه , فإذا حصل للنفس هذا القدر الجليل فأي فقر يخشى معه , وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه, فالغنى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ليس عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) [1]
وفي القدر خفايا أسرار ولو كشف للعبد قدره لما اختار غير ما يقضيه الله له.
أوليس قارون قد أوتي من الملك ما كانت مفاتيح خزائنه لا يطيق حملها أشداء الرجال إلا بمشقة فكيف بالخزائن نفسها حتى تمنى السذج من الخلق ما عنده ولم يتفطنوا أن المسألة امتحان صعب عسير . فماذا كانت النتيجة ؟! اغتر قارون بملكه ونسي المنعم حتى بلغ الطغيان حده وخرج في أبهى صورة , فأراد الله أن يبين لهم حال قارون في الدنيا قبل الآخرة وأن ماله وملكه لم يزده من الله إلا بعدا فخسف به الأرض , فحينها علم المغترون عظيم الحكمة الربانية في عدم إعطائهم ما أعطي قارون , قال تعالى : (وَأَصْبَحَ الذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [القصص:82]، "وكلامهم ندم وتوبة ورجاء ، فندموا أن تمنوا مكان قارون وزعموا أنه ذو حظ عظيم ، وتابوا إلى الله عن تمني الدنيا إلا بحقها , وأن الله حكيم في بسطها وقبضها ، وكان رجاءهم في ربهم أن يحفظهم بالإيمان وألا يجعلهم مفتونين كما فتن قارون لما بسط الله له الدنيا "[2]
ومنها : أن يعلم العبد الذي لم يوسع ربه عليه أن الله زوى الدنيا عن كثير من أوليائه رحمة من الله بهم وحبا لهم ولنا في النبي صلى الله عليه وسلم أسوة الذي لم يجد للضيف يوما في أبياته التسعة طعاما لا تمرا ولا غيره سوى الماء حتى خرج للناس فقال من يضيف ضيف رسول الله ؟!
و دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم (وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ , وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُورًا وَعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبًا مُعَلَّقَةً فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَيْتُ فَقَالَ مَا يُبْكِيكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا وَلَنا الْآخِرَةُ)[3]
ولم يجد يوما ما يشتري به طعاما لأهله فرهن درعه ومات بأبي هو وأمي يوم مات ولا تزال الدرع مرهونة لم يجد ما يخلص به رهنه! وهو أكرم الخلق على الله الذي لو رغب النبي في الدنيا لأعطاه ( تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) [الفرقان :10 ]
و الفقراء هم أكثر أهل الجنة فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
تَحَاجَّتْ النَّارُ وَالْجَنَّةُ فَقَالَتْ النَّارُ أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وَقَالَتْ الْجَنَّةُ فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَعَجَزُهُمْ فَقَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَقَالَ لِلنَّارِ أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمْ مِلْؤُهَا فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ فَيَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا فَتَقُولُ قَطْ قَطْ فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ) [4]
ومنها : أنه إذا كان هذا حال أولياء الله في دنياهم وقد أعطى أعداءه من البسط في دنياهم ما لا يوصف علم حقارة الدنيا وهوانها على الله وتكشفت له على حقيقتها
وذلك برهان على أن قدرها *** جناح بعوض أو أدق وألأم
وأعجب من ذا أن أحبابها الألى *** تهين وللأعداء تراعي وتكرم
وحسبك ما قال الرسول ممثلا *** لها ولدار الخلد والحق يفهم
كما يدخل الإنسان في اليم إصبعا *** وينزعها منه فما ذاك يغنم
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** على حذرمنها وأمري محكم
ومنها : " أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال , فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال , وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته . فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة , وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية, فالابتلاء كير العبد ومحك إيمانه فإما أن يخرج تبرا أحمر وإما أن يخرج زغلا محضا وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية فلا يزال به البلاء حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه ويبقى ذهبا خالصا, فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه اللهم أعني على ذكرك وشكر وحسن عبادتك وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه ونحاسه وصيره تبرا خالصا يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره ؟! " [5]
ومنها : حسن التوكل على الله عز وجل من آثار الإيمان بتوحيده في اسمه القابض ، وسبب في الفرج وسعة الرزق ، فكل ما يناله العبد من الخير والعطاء فهو رزقه في سابق القضاء ، وما كتب له في اللوح سيصله بالتمام ، والمكتوب أزلا لن يكون لغيره من الخلق أبدا ، ومن ثم يصبر عند البلاء ويشكر عند الرخاء ، روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( يَقُولُ اللهُ تعالى مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلاَّ الْجَنَّةُ ) [6]
ومنها : أن يوقن أن الذي أعطى غيره لا يعجزه أن يعطيه مثلهم ولا يمتنع عليه ذلك كيف لا وهو الذي بيده سبحانه الملك كله وعلى العبد أن يسعى في دفع الفقر عنه وليبشر ببشارة النبي وليحذر من فتنة الدنيا فليس الفقر هو الذي يخشى على العبد منه ولكنما يخاف العبد من زينة الدنيا ؛ روى لنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ فَوَافَتْهُ صَلاَةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللهِ , فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ : أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ ، فَوَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ ) [7]
قال إبراهيم بن أدهم :" طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى , وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر" [8]
ومنها : أن يثني على ربه في عطائه ومنعه فالعطاء والمنع من موجبات حمده ويلهج بالدعاء الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم في أشد أيامه صعوبة وأكثره جراحا : ( لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِي عَلَى رَبِّى، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفاً فَقَالَ : اللهمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ ، اللهمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ ، وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلاَ هَادِي لِمَا أَضْلَلْتَ ، وَلاَ مُضِل لِمَنْ هَدَيْتَ وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ ، وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ ، وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ ، اللهمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ ، اللهمَّ إني أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ ، اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ ، اللهمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ ، اللهمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا ، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ ، اللهمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ ، اللهمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رَجْزَكَ وَعَذَابَكَ ، اللهمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ )[9][10]
*/ عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم . قسم السنة
28/6/1428
________________________________________
[1] متفق عليه من حديث أبي هريرة
[2] زاد المسير لابن الجوزي 6/246 بتصرف . وانظر الأسماء الحسنى د/ الرضواني 5/122ـــ 123
[3] متفق عليه والقرظ: ما يدبغ به الجلد , والمصبور: المجموع على هيئة الصبرة , والأهب : القرب وهي أوعية الماء
[4] متفق عليه
[5] طريق الهجرتين ص417
[6] البخاري في الرقاق ، باب العمل الذي يبتغي به وجه الله فيه سعد 5/2361 (6060) .
وانظر الأسماء الحسنى د/ الرضواني 5/122- 123
[7] البخاري في الجزية ، باب شهود الملائكة بدرا 4/1473 (3791) .
[8] طريق الهجرتين ص85
[9] عند أحمد وصححه الألباني من حديث ابن رفاعة الزرقي رضي الله عنه الذي تقدم ذكره في اسم الله القابض وفيه بتمامه أكثر من دعاء بالوصف حيث قال رضي الله عنه أحمد في المسند 3/424 ، وصححه الألباني في الأدب المفرد (699) .
[10]وانظر الأسماء الحسنى د/ الرضواني 5/122- 123و 4 /116- 117