الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه إلى يوم الدين،وبعد:
من فروض الكفاية الواجبة على مجموع الأمة : تعلُّم لغات الآخرين عند الحاجة إليها، وخصوصًا إذا كان عندهم ما ليس عند المسلمين، من علم يؤخذ أو حكمة تُقتبس، فلا سبيل إلى الانتفاع بما عند غيرك إذا جهلت لغته، ولم يمنع الإسلام من تعلُّم لغات الآخرين، بل دعا إليها باعتبارها وسيلة للتفاهم بين البشر، كما أنها وسيلة لنشر دعوته في العالم، فهي هنا فرض كفاية.
وذلك أن رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسالة عالمية، فهو ـ وإن كان عربيًّا، والكتاب المُنزَّل عليه عربي، وقد أرسله الله بلسان قومه ليبين لهم ـ قد بُعث للناس كافة (ليكونَ للعالمين نذيرًا) (الفرقان: 19). (وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين) (الأنبياء: 107) (قلْ يا أيُّها الناسُ إني رسولُ اللهِ إليكم جميعًا) (الأعراف: 158).
فلابد من ترجمة بينه وبين أرباب اللغات الأخرى، حتى يمكنه تبليغ الدعوة إليهم، وتلقِّي الإجابة منهم. وقد كان عنده ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أصحابه من يعرف الفارسية والرومية والحبشية، ويكفيه هم الترجمة منها وإليها، ولكن لم يكن عنده من يعرف اللغة السريانية التي يكتب بها يهود، فأمر بذلك كاتب وحيه الأنصاري النابغة: ـ زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ ليتقنها قراءة وكتابة، ويستغني بها عن الوسطاء من اليهود في ذلك، وبخاصة أنهم غير مأمونين.
قال زيد : أمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتعلمتُ له كتاب يهود بالسريانية وقال: إني والله ما آمن يهود على كتابي، فما مر لي نصف شهر حتى تعلمته وحذقته، فكنت أكتب له إليهم، واقرأ له كتبهم. (رواه البخاري، وأبو داود والترمذي) ولعله كان على شيء من المعرفة بها من قبل (لمجاورة الأنصار لليهود) حتى أمكنه أن يحذقها في هذه المدة القصيرة.
ومن هنا حرص كثير من المسلمين ـ في عصور ازدهار حضارتهم ـ على معرفة اللغات، فترجموا منها وإليها، وقال في ذلك الشاعر :
بقدر لغات المرء يكثر نفعه فتلك له عند الملمَّات أعوان
فأقبل على درس اللغات وحفظها فكل لسان في الحقيقة إنسان! .
والله أعلم